أحداث أكتوبر وسبتمبر- دروس التاريخ وتداعيات الاستدعاء السياسي لإسرائيل

في خطابه الهام الذي ألقاه أمام الكونغرس الأميركي في الرابع والعشرين من شهر يوليو/تموز عام 2024، جدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التأكيد بكل وضوح على أن فظائع السابع من أكتوبر/تشرين الأول تضاهي، بل وتماثل، ما شهدته الولايات المتحدة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001، بل ذهب أبعد من ذلك، مصرحًا بأنها تعادل تسعة وعشرين ضعفًا من هول ما جرى في تلك الأحداث المأساوية.
هذا التشابه التاريخي الذي أشار إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي منذ اللحظات الأولى لانطلاق هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، يثير تساؤلات جوهرية حول دوافع استحضار هذا الحدث تحديدًا. لماذا تم الربط بشكل مباشر بين أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والكارثة التي حلت في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول؟ والأهم من ذلك، هل يدرك نتنياهو العواقب الوخيمة لمثل هذا الاستدعاء؟
تهدف هذه المقالة إلى تسليط الضوء على بعض الاستنتاجات الأساسية التي قد تساعد في فهم الأسباب الكامنة وراء استدعاء التاريخ في مثل هذه الظروف المأساوية. وهل يجب أن يتم ذلك بشكل منقوص؟ أم من الضروري استكمال هذا الاستدعاء للنظر في جميع التفاصيل التي صاحبت الحدث، وما الذي أدى إليه، وما هي التداعيات المحتملة للحدث الذي تم استدعاؤه في هذا السياق؟
الحديث عن السابع من أكتوبر/تشرين الأول، هو في الواقع حديث عن تلك الهجمات الشرسة التي شنتها المقاومة الفلسطينية على المستوطنات المتاخمة لشمال غزة وشرقها. هذا العمل تم تنفيذه من قبل حركة لا تمثل دولة، بل تُعرف بأنها جهة فاعلة "أقل من الدولة"، وهي في السياق الفلسطيني حركة مقاومة. هذا الحدث الذي استمر لساعات معدودة، وشهد احتجاز عدد من الإسرائيليين، فتح الأبواب أمام سلسلة من التطورات المتسارعة على الأصعدة الفلسطينية والإقليمية والدولية.
فهم الاستدعاء للتاريخ وتبعاته
لقد تم استحضار أحداث سبتمبر/أيلول عام 2001 التي نفذتها جماعة غير تابعة لدولة، وهي تنظيم القاعدة. الاستنتاج الأولي الذي يبرز هنا بالغ الأهمية في سياق التصور الإسرائيلي والأميركي لما جرى في سبتمبر/أيلول 2001، أو في أكتوبر/تشرين الأول 2024، وهو أن مثل هؤلاء الفاعلين من غير الدول، لا يمكنهم القيام بتلك العمليات إلا إذا كانت هناك دولة تقف خلفهم وتدعمهم.
لهذا السبب، استمرت إسرائيل في الترويج لفكرة أن إيران هي الجهة المسؤولة، وأنها هي من تقدم العون لحماس، ولو لم تقدم إيران الدعم لحماس وحزب الله والحوثيين "أنصار الله"، لما تمكنت هذه التنظيمات من القيام بكل ما تقوم به. هذا التصريح لا يبدو دقيقًا تمامًا بالنظر إلى سياق كل من هؤلاء اللاعبين السياسيين.
فقد فعلت الولايات المتحدة الأمر ذاته، عندما اعتبرت حكومة طالبان بمثابة داعم رئيسي لتنظيم القاعدة. بالنسبة لإسرائيل، وتحديدًا رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، فإن هؤلاء الفاعلين من غير الدول، لا يمكنهم الاستمرار فيما يرتكبونه من أفعال ضد إسرائيل إلا بوجود دعم متواصل من إيران.
وبالتالي، فإن الاستدعاء لا يقتصر على دور الفاعلين، بل يتجاوزه إلى دور الدولة.
الخلاصة الثانية التي يجب التأكيد عليها، هي أن الحديث عن هذه الهجمات ليس حديثًا عن مواجهة مباشرة بين دولتين. فاللاعبون من غير الدول يبدأون عملياتهم وفقًا لخططهم الزمنية وأولوياتهم الخاصة، ويسعون لاقتناص ما يعتبرونه نصرًا، ويجعلون الطرف الآخر يبذل جهودًا مضنية لاستعادة مكانته وقدرته على الردع، وما إلى ذلك.
في مثل هذه الحروب، تتغير أيضًا مفاهيم النصر والهزيمة. وهذا ما حدث في كلتا الحالتين: الأميركية والإسرائيلية. فالولايات المتحدة، بعد هجوم سبتمبر/أيلول 2001، شنت حربًا عالمية ضد الإرهاب، دون تعريف واضح ومحدد للإرهاب، وفي خضم هذه الحرب، غزت العراق عام 2003، وقبلها شنت حربًا على أفغانستان عام 2001، وحروبًا أخرى متفرقة على تنظيمات مختلفة في الصومال واليمن وباكستان، وكلها حروب تمت تحت مظلة الحرب على الإرهاب.
لم تكن إسرائيل في ردها على هجمات أكتوبر/تشرين الأول إلا مقلدة للولايات المتحدة، فقد شنت حربًا ضروسًا على حماس في غزة، واستمرت في عدوانها الغاشم على الضفة الغربية وتوسيع المستوطنات الاستعمارية، وفي الوقت نفسه، ومع دخول لاعبين آخرين على الخط، مثل حزب الله، بدأت في شن هجمات على لبنان.
ضبابية وتيه سياسي
ثم انضمت اليمن إلى دائرة الصراع، فبعد إطلاق الحوثيين طائرة مسيرة لاستهداف تل أبيب، قامت إسرائيل بالاعتداء على ميناء الحديدة. الحقيقة المؤلمة هي أن الدولة، ونحن هنا نتحدث عن إسرائيل، ومن قبلها الولايات المتحدة الأميركية، أصبحت في موقف رد الفعل وليس الفعل، وهذا الأمر أفقدها القدرة على تقديم تعريف واضح للنصر يمكن تحقيقه على أرض الواقع.
ما يحدث في إسرائيل الآن هو مثال صارخ على حالة التيه السياسي، وذلك لأن تعريف النصر غير واضح المعالم. هناك تعريف يطلقه رئيس الوزراء ومن يدور في فلكه من اليمين المتطرف، ويتلخص في القضاء التام على حركة حماس، لكنّ أركان المؤسسة العسكرية والسياسيين الآخرين لا يرون ذلك ممكنًا. وأمام هذه الضبابية، يتم استنزاف القوة العسكرية، لأنها تبحث عبثًا عن هذا التعريف الذي يمكن أن يوجه أعمالها ونشاطاتها العسكرية.
لعل هذا الأمر لم يكن بعيدًا عن الحروب التي شنتها الولايات المتحدة على مدى عقدين من الزمن في مناطق مختلفة من العالم، فهذه الحروب لم تؤد إلى أي نوع من الاستقرار في أفغانستان أو العراق، بل جعلت تلك الدول أكثر هشاشة وتحولت إلى بؤر لعدم الاستقرار الإقليمي.
كانت واشنطن تعتقد أن النصر يكمن في القضاء على حركة طالبان، وتشكيل حكومة جديدة تلتزم بالمعايير الغربية، لكن ما حدث بعد أكثر من عقدين من الحرب على أفغانستان كان فشلًا ذريعًا، واضطرت في النهاية إلى خيار التفاوض والقبول باللاعب الذي كانت تعتبره عدوًا، وهو حركة طالبان، التي كانت العامل الحاسم في مساعدة واشنطن على الانسحاب من أفغانستان.
بالطبع، فإن عدم القدرة على تعريف النصر يجعل الحديث عنه غامضًا ومتغيرًا، ومعه يصعب تجاهل حجم الخسائر السياسية والمعنوية والاقتصادية التي تكبدتها الولايات المتحدة، والتي تجاوزت تريليوني دولار، بالإضافة إلى مقتل أكثر من 50 ألف مدني أفغاني وفقًا للأرقام المتاحة.
بالطبع، رافق ذلك حجم القتل والدمار الذي خلفته تلك الحرب في أفغانستان، وهو ما يتكرر الآن في الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي يقترب فيها عدد الشهداء والجرحى من 200 ألف.
إن الاستدعاء التاريخي الذي قام به نتنياهو لأحداث سبتمبر/أيلول لا يمكن أن يكون إلا متعمدًا ومقصودًا، فمن خلاله يستطيع تمرير مخططاته الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، وخلق وقائع جديدة على الأرض تجعل فكرة إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، بل وحتى مجتمع فلسطيني موحد بمدن وقرى متواصلة، أقرب إلى المستحيل.
استنزاف وأثمان باهظة
وقد تجلى هذا الأمر بوضوح في حرب واشنطن بعد أحداث سبتمبر/أيلول، حيث ظهرت رغبة جامحة في إعادة تشكيل قواعد اللعبة في العالم والتركيز على مركزية القطب الواحد، وتعريف المشهد كما وصفه جورج بوش الابن بأن على الدول أن تختار إما أن تكون مع أميركا أو ضدها.
لقد كان الاستدعاء بمثابة أداة للضغط على واشنطن سياسيًا في مواقفها من الحرب على غزة، فهو يوجه رسالة مبطنة لواشنطن مفادها أنه "بسبب هجمات سبتمبر/أيلول 2001، كان لديكم الحق في أن تفعلوا كل ما فعلتم لأكثر من عقدين، فكيف لا تسمحون لإسرائيل بالرد على هجمات يعتبرها نتنياهو 29 ضعفًا من أحداث سبتمبر/أيلول؟"
إن الاستدعاء الذي قام به نتنياهو يطرح أسئلة جوهرية تتعلق بقدرة إسرائيل على تحمل تبعاته، خاصة وأن هذا الاستدعاء يأتي في وقت تعاني فيه واشنطن من استنزاف واضح في قدراتها، حيث تمارس سياسة "القيادة من الخلف"، وهو الأمر الذي يحتّم على الآخرين تحمل أعباء أكبر، ومن بينهم إسرائيل.
لم تستطع واشنطن، ومعها تحالفات دولية ومنظمات دولية على رأسها الأمم المتحدة، تحمل تبعات الحروب الطويلة التي استنزفت قدراتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، خاصة في ظل صعود قوى سياسية جديدة من شأنها أن تهدد مكانة أميركا الاقتصادية والسياسية.
فهل تستطيع إسرائيل بمفردها تحمل تبعات حرب تقترب من عشرة أشهر في ظل تراجع الحلفاء سياسيًا واقتصاديًا؟ وكيف ستعوض إسرائيل حجم الخسائر الاقتصادية في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها أميركا؟ وكيف ستتمكن من مواجهة الصورة والسردية السلبيتين اللتين تجتاحان العالم، وذلك في عالم مفتوح يشهد تغيرًا في تصورات الأجيال وقناعاتهم؟
لقد دفعت أميركا، وما زالت تدفع، ثمنًا باهظًا بسبب حربها على الإرهاب، وما رافق ذلك من انتهاكات لحقوق الإنسان والقيم التي طالما روجت لها، ولا يبدو أن إسرائيل ستكون استثناءً في ظل تجاوزاتها، بالنظر إلى عالم تتغير فيه الأفكار وأدوات التأثير ومراكز القوة!